هذا التعلق للأرواح بربِّها وحبها له ، قد نشأ منذ أن خلقها الـلَّـه تعالى وخاطبها ” ألست بربكم ” يوم العهد والميثاق الأول …

  • لقد ضرب الـلَّـهُ لنا فى حياتنا أمثلةً لكل شهوةٍ ولذة ترتوى بها النفس وتسعد بها .. والدنيا ترابية فانية .. ناقصة لا أمان لها ولا فيها .. ولكن الـلَّـه تعالى يقرب إلينا المعانى العلويَّة السامية حتى ندركها بأرواحنا العالية …
    راحة النفس فى الدنيا .. بالأمن والأمان … والـلَّـه تعالى هو المؤمن .. السلام …
    وسعادة النفس فى الدنيا .. بدوامها بالشراب والطعام … وفى الجنة طعام وشراب …
    وسعادتها فى الدنيا .. بالزواج والنكَاحِ .. فجعل الحُورَ العين فى الجنة ….
    وسعادتها فى تمام صحتها وأُنسها .. وجعل نعيم الآخرة ليس فيهِ نصبٌ ولا لُغُوب …
    وراحتها فى حب الامتلاكِ والغنى .. فأغناها الـلَّـه فى الجنة ومَلَّكَهَا من نعيمه …
    فكل شهوة لها فى الدنيا … وعدها الـلَّـه بمثلها فى الآخرة ….
    وكل ما تكرهه فى الدنيا … أمَّــنَهَا الـلَّـه منه فى الآخرة …
    ولكن ما أبعد الفرق بين سعادة النفس فى الدنيا الفانية الزائلة .. وبين سعادتها فى الآخرة .. وبما وعدها الـلَّـه به ، من نعيم مقيم من أنوار الـلَّـه تعالى الدائمة العليَّةِ …. فنحن إذا تكلمنا عن الحُبِّ للأنْفُسِ .. وكان هذا الحُبُّ لمخلوقٍ أيًّـا كان … وهو ترابىٌّ فانٍ .. ما بين زوجةٍ .. أو ولدٍ .. أو أى حُبٍّ دُنيوىٍّ … وما يجده المحب من لوعة وشوق يعذِّبُهُ ويضنيه ، وبين وَصْلٍ يُسْعِدُهُ .. ورضاً من المحبوب يرضيه وينعِّمُهُ .. ولكِنَّهُ فى النِّهَايَةِ حُبٌّ ليس بالدائم .. ووصلٌّ ليس بالمُطْمَئَنِّ إليْهِ .. ومحبوبٌ فانٍ مآلهُ إلى تراب .
    فكيف إذا تعلقت النفس والقلب بالجمالِ كُلِّهِ .. والكمالِ كُلِّهِ .. والطُهْرِ كُلِّه والعظمة كـلِّهَا .. والأزلية المطلقة .. والأمن والأنس الدائم .. والسلام الذى ليس بعده خوف ولانصب !!!
    يقول تعالى :
    قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ )

  • فالـلَّـه سبحانه وتعالى ضرب لك مثلا لحبك وسعادتك بما وبمن تحب فى الدنيا ، ولكنه يرفعك من الترابية الفانية .. إلى الأنوار القدسية الخالدة الخالية من كل عيب.. الكاملة فى صفاتها وسعادتها …
    وهذا التعلق للأرواح بربِّها وحبها له ، قد نشأ منذ أن خلقها الـلَّـه تعالى وخاطبها ” ألست بربكم ” يوم العهد والميثاق الأول …
    والـلَّـه سبحانه وتعالى كلامه منَـزَّهٌ عن الصوت والحرف والكلمة بمفهومنا .. فالكيفية مجهولة ، ونحن نسلم بها إيماناً وتصديقاً …
    ولكنَّ الـلَّـه تعالى الجميل .. خالق النعيم .. ورب النعم .. فيه الجمال كله والجلال كله .. والكمال كله .. فاهتزت الأرواح طَرَبـًا وسعادة بهذا النداء العلوى المقدس .. فبدأ عندها الحب والشوق ، وتمنى الوصال والسقيا من هذه الأنوار القدسية والجمال الأبدى ….
    ثم كانت الحجب فى البرزخ .. وفى الأرض .. فصارت الأرواح أشد شوقاً ومحبة لـلَّـه تعالى … وعلمت النفس معنى الحُبِّ والأُنس والسعادة …
    ولكن النفس لها وجه إلى الروح أو القلب .. ولها وجه إلى الجسد الترابىّ .. فجعلت النفس تبحثُ عن سعادتها .. ووسيلتها فى ذلك الجسد … وتفكيرها محصور فى عالم المادَّة ، التى تعيش فيها … فبدأت تُمَارِسُ ألوانـًا من الحُبِّ بحواسِّ الجسدِ ومشاعره ، لِمَا ومَنْ حوله من الكائنات ..
    ولكنها فى النهاية سوف تَجِدُ أَنَّ حُـبَّهَا للدنيا وما فيها هو كالسراب .. وما فيه من حقيقة ولا خلود …
    فإذا ارتفعت النفس بأنوار الروح ، ومالت عن عالم الجسد .. بدأت تبحث عن سعادتها بالأنس والائتلاف بالأرواح الأخرى المتشابهة معها … وظهر نوع من الحب أسمى من الأول ، لخروجه من عالم المادة …
    فإذا ما كشفت الروح عن بعض حُجُبِهَا .. وصُقِلَت النفس بأنوارها .. علمت النفس حقيقةً أنَّهُ لامحبوب يستحق المحبة .. وتجد به سعادتها وسلامها وأمنها .. إلا الـلَّـه تعالى .. الجمال والجلال والكمال المطلق .. وجَلَّ جلال الـلَّـه ، وعز جاهُهُ ، وتقدست أسماؤه وصفاته ….

مقتطفة من كتاب ” أنوار الأحسان (أصُول الوصُول ) – الباب الرابع ” – لكتابه الإمام عبد اللـه // صلاح الدين القوصى

www.alabd.com

www.alkousy.com